الثلاثاء، 18 ديسمبر 2012

الرئيسية اللمس أغلى الحواس

اللمس أغلى الحواس


اللمس أغلى الحواس

هل اغتسلتم بماء ساخن من دون أن تتحسسوه؟ وهل نزلتم سلّماً معتمة من دون لمس؟

- عندما يضع العالم النفساني مايكل ميني طفله في الفراش وقت النوم يلّف اللحاف حوله ويطبع على جبينه قبلة. فقد دلّت أبحاثه على الحيوانات أن الملاطفة باللمس في مرحلة الطفولة قد تؤدّي في مرحلة البلوغ إلى جعل خلايا الدماغ أكثر عافية والذاكرة أكثر صفاء كما قد تخفض مشاكل الشيخوخة.

- في أحد المستشفيات صفوف من المحاضن داخله أطفال خدّج (مولودون قبل أوانهم). وجميعهم يُعطون الطعام ذاته، إلاّ أن الذين يجري تدليكهم يومياً يزداد وزنهم ويتحسن نموهم العقلي أكثر من أولئك الذين لا يلقون هذه المعاملة.

- يطلب من المتسوّقين في أحد المتاجر الكبرى تذوّق نوع جديد من البيتزا. والمتسوقون الذين يُلمسون أثناء تبادل حديث الترويج، وإن لجزء من الثانية، يستجيبون غالبا فيشترون البيتزا الجديدة.

اللمس هو أول حاسّة ننميها، ونحن نكتسبها قبل أن نولد ولا حياة لنا من دونها. فهلاّ تصورتم أنفسكم عاجزين عن تحسّس خطر الماء الغالي أو مضطرين إلى نزول سلّم معتمة من دون لمس؟ ثمة اعتقاد غالب أن النظر هو الحاسة الأهم لدينا. لكننا نغمض أعيننا للنوم فترة تعادل ثلث يومنا. أما احساسنا فلا يغيب عتا إطلاقاً، فنظل واعين ما يحيط بنا في العالم.

لقد اكتشف العلماء أن اللمس يكيّف عقولنا وصحتنا. وأجرى الدكتور سول شانبرغ أستاذ علم العقاقير والطب النفساني البيولوجي في جامعة ديوك في دورهام بكارولينا الشمالية، دراسة على الجرذان الصغيرة. فوجد أنها حين تُفصل عن أُمّاتها 45 دقيقة تنتابها تغيرات داخلية تؤدي إلى انخفاض شديد في مستوى هرمون النمو ومستوى أحد الأنزيمات الرئيسية، لكن هذين المستويين يعودان إلى طبيعتهما بعد إرجاع الأم إلى جحرها. فافتقار الجراء إلى لمس أمها أحدث لديها تلك التغيّرات الكيميائية البيولوجية. ولكن حين مسّدت هذه الجرذان الصغيرة بفرشاة طلاء مبللّة، عادت أيضاً إلى حالتها الطبيعية.

حاسة الأم

يولد ملايين الأطفال الخدج سنويا. إلاّ أن كثير منهم يعجزون عن النمو أو عن البقاء. لذا، بالتعاون مع شانبرغ وبتوجيه من العالمة النفسانية تيفاني فيلد، بدأ الباحثون في معهد أبحاث اللمس في كلية الطب بجامعة ميامي اخضاع الأطفال الخدّج لتدليك يومي مدته 45 دقيقة. وكانت القاعدة الطبية تقتضي سابقا بابقاء هؤلاء الأطفال معزولين في محيط مماثل للرحم حيث لا يُلمسون باعتبار أن اللمس يشكّل إجهاداً لهم ويفقدهم فرص البقاء على قيد الحياة. لكن فيلد ومساعديها فاموا بتجربة على 20 من الأطفال الخدج الذين استقرت حالهم، فأجروا لهم تدليكاً بطيئاً مع تحريك أطرافهم ثلاث مرات يومياً لفترة 15 دقيقة كل مرّة.

وبعد عشرة أيام تبيّن أن الذين دُلكت أجسادهم زاد وزنهم أكثر من رفاقهم بنسبة 47 في المئة. كما ظهر تحسن في نموهم وتيقّظهم ونشاطهم. وأظهروا لاحقا، طوال ثمانية أشهر من المتابعة، مهارات عقلية وجسدية أكبر. والأمر الأكثر إثارة هو أن الأطفال الذين مسّدت أجسادهم غادروا غرفة العناية المركزة قبل ستة أيام، في المتوسط، من أولئك الذين فاتهم التمسيد. وتعلّل فيلد ذلك بكون اللمس ينشّط بعض الهرمونات التي تظهر طبيعيا لدى الأطفال الذين يولدون بعد فترة حمل كاملة، ومنها تلك التي تسهّل امتصاص الطعام.

وبحسب الدكتور رونالد بار من مستشفى الأولاد في مونريال، فإن الأطفال الامركيين تحملهم أمهاتهم من ساعتين إلى ثلاث ساعات في اليوم. وفي بعض المجتمعات القبلية الافريقية تحمل الأمهات مواليدهنّ نحو 90 في المئة من الوقت. إلى ذلك تضيف كاثرين برنار أستاذة التمريض في جامعة واشنطن أن “ثمة 80 في المئة من اتصالات الطفل تتّم من خلال حركات جسمه، والتصاق الجلد بالجلد يسهّل قدرة الأم على قراءة تلك الاتصالات.” وكلما زاد حمل الأم طفلها ازداد إدراكها لحاجاته.

فاللمس يلبّي حاجات تتعدّى تأمين الطمأنينة والسلامة. فقد اكتشف العلماء أن الأطفال حين يضعون لعبة أو خشخاشة في أفواههم لا يفعلون ذلك في محاولة لتذوّقها فحسب، فهم يستخدمون شفاههم وألسنتهم، التي هي أكثر مناطق اللمس حساسية، لاستجلاء ما يشاهدونه بأعينهم. فاثبات بُعد محيطهم وشكله وقساوته باللمس يساعدهم على تنمية حواس آخر، كالنظر.

وحتى إن بلغنا سن الرشد، فنادراُ ما نقبل الفكرة القائلة أن “في النظر التصديق.” فنتكلم بدلاُ من ذلك على تفضيلنا الأشياء التي يمكننا “إمساكها”، أشياء “ملموسة، حقيقية.” ويختلف العالم الذي ندركه باللمس عن ذلك الذي نبصره بأعيننا. ضع عصابة على عينيك ودع أحد أصدقائك يجسّ جلدك بقطع مختلفة الأشكال من الكعك. الشخص العادي يمكنه أن يتعرف إلى أقل نصف الأشكال التي مسّت جلده. ولكن إذا أتيح لك لمس كل قطعة من الكعك بأصبعك ارتفعت نسبة تعرفك إلى هذه الأشكال إلى 95 في المئة.

لمسة ورسالة

إن نسبة اللمس هي الأعلى في الفترة التي تسبق دخول المدرسة. وينخفض اللمس إلى أدنى مستوياته في أوائل سني المراهقة أو في منتصفها.

ويقول فرانك ويليس أستاذ علم النفس في جامعة ميسوري: “عندما أجرينا دراسة على الأزواج في الأماكن العامة، لاحظنا أن الرجل هو الذي يبادر إلى لمس المرأة قبل الزواج. أما بعد الزواج فالمرأة هي التي تلمس الرجل أولاً في معظم الأحيان.”

وعموماُ، يشعر الناجحون والواثقون بأنفسهم بحرية في اللمس أكثر من الخجولين المتردّدين. وفي الحياة اليومية تعتمد النساء اللمس ويتقبلنه أكثر كثيرا من الرجال، وهنّ أكثر حساسية حياله في أنحاء أجسامهن، من رؤوس أصابعهن إلى أخماص أقدامهنّ. أما الرجال فيردّون على اللمس المفاجئ بشيء من التوتر، إذ غالبا ما يرون فيه هيمنة عليهم أو إثارة لحساسيتهم.

وقد يُساء فهم بعض رسائل اللمس. فلمسة خفيفة للكتف أو المرفق أو اليد تعني عادة الصداقة. ولكن حين يلمسك شخص من الجنس الآخر، فهل تعني هذه اللمسة صداقة؟ أم تكون مبطّنة بالإغراء؟ أم تكون بقصد المضايقة؟

غير أن اللمسة المتريّثة على اليد أو الوجه أو العنق تعني، على الأرجح، أكثر من ذلك. فتربيت الرأس قد يدلّ على رغبة في فرض الرعاية، كأنك بذلك تقول: “أنا هو الرجل الراشد، وأنت الولد القاصر.”

حتى إن لغياب الاحساس باللمس تأثيرا نفسانياً قوياً. فقد تبيّن لويليس أن ثمة عدداً أكبر من المتسوّقين الذي يُطلب منهم تذوّق نوع جديد من البيتزا، أو من المارة الذين يُطلب منهم التوقيع على عريضة، استجاب لدى لمسه بخفّة وإن لجزء من الثانية. واكتشف باحثون آخرون أن اللمسة العابرة الخاطفة تدرّ زيادة في الاكراميات المعطاة لندل المطاعم. يقول ويليس: “إن الأبحاث الحديثة التي تتناول تصرّفنا غير المشفوع بالكلام، تعبر عما عرفه الباعة الناجحون منذ وقت طويل: أن لمسة خفيفة منك تقنع الزبائن غالباً بأنك ودود وصديق حقاً”.

قوة شافية

يشير بعض الباحثين إلى أن اللمس قد ينطوي على قوة شافة للبالغين كما للأطفال والأولاد. فلمس الاحبّاء والممرضات لنزلاء المستشفيات قد يفرّج عنهم القلق والتوتر وآلام الصداع. كما قد يخفض اللمس سرعة نبض القلب وعدم انتظامه. وتقول الممرضة ريتا كنغ من كاليفورنيا:  ”إن الاتصال البشري يجعل الناس يشعرون بحال أفضل وبمزيد من الطمأنينة والأمان. فهو ذو تأثير مهدّئ. كما أن الشفاء يتّم على نحو أسرع حيث يشعر المريض بأن ثمة من يوليه العناية الصحيحة.”

فهل يساعد اللمس على شفاء بعض العلل أيضا؟

اكتشف مايكل ميني من مركز الأبحاث في مستشفى دوغلاس في جامعة ماكغيل بمونريال، أن الجرذان الصغيرة حين تحظى برعاية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من حياتها، تشهد نمو خلايا حسية إضافية متقبّلة تضبط انتاج الغلوكوكورتيكويد وهذه مواد إجهاد كيميائية قوية وفاعلة قد تسبّب تقلّص العضل وفقدان الحساسية تجاه الانسولين وارتفاع ضغط الدم ومعدل الكولسترول وتعطيل نمو خلايا الدماغ وتلفها.

فالمتقبلات التي أُنتجت من طريق اللمس في مرحلة الطفولة بقيت طوال حياة الجرذان. وعندما اعترضتها مشاكل وضغوط أصبحت أقدر على خفض انتاجها من الغلوكوكورتيكويد إلى المستويات الطبيعية. وفي الأوضاع الخالية من الضغوط أنتجت الجرذان المحظية مقادير من الغلوكوكورتيكويد أقل من تلك التي أنتجتها تلك التي لم تلق رعاية.

واكتشف ميني أن الجرذان التي لم تُلمس في صغرها أصيبت بفقدان الذاكرة وبتلف في الذماغ من جراء التعرض للغلوكوكورتيكويد. أما تلك التي حظيت برعاية وهي صغيرة فأصيبت بتلف أخف كثيراُ في الدماغ بفعل الضغط، ولم تفقد ذاكرتها في مرحلة الشيخوخة. وكانت خلاصة أبحاث ميني وزملائه التي نُشرت في مجلة “ساينس” حصول “تأخير فعلي لمعالم الشيخوخة.”

ولأدمغة البشر، في ما يتعلق بالغلوكوكورتيكويد، الكيمياء والخلايا الحسية المتقبلة الموجودة لدى الجرذان، ويبدو محتملاً أن تكون استجابتنا للرعاية التي نلقاها في طفولتنا مماثلة.

وُلد أول طفل لميني فيما هو مكبّ على أبحاثه. وهو يقول: “إنني أُشبع ابني ضماً وتقبيلاً أكثر مما لو وُلد قبل هذه الاكتشافات. ودلائلنا تشير إلى أن ضمه وتقبيله حالياً سيساعده على تذّكر ملامح وجهي وعلى عيش حياة أكثر سعادة وعافية. إن لمسي إياه اليوم قد يطبع مستقبله.”

لويل بونتي من مجلة المختار عدد 161

مصدر الصورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.